في عالم يتأرجح بين ضجيج الحاضر وظلال الماضي، يصبح إحياء الذكرى فعل مقاومة أخلاقية: تذكير حيّ بأن السلام لا يُورث، بل يُبنى، وأن كل لفتة – زهرة، اسم، صمت – تُديم الوعد الهش بمستقبل أكثر إنسانية.
بقلم كلوديا بينيتيز
HoyLunes – نحن غارقون في حاضرنا، مفعمون بالذكريات والاحتفالات. نشارك كل عام في مراسم جماعية أو فردية لتكريم من فقدناهم. نلتزم الصمت، ونشعل الشموع، ونضع الزهور أمام النصب التذكارية والمذابح، وننطق الأسماء على أمل ألا يمحوها الزمن.
هذه اللفتات، التي تبدو بسيطة، تحمل في طياتها معنى عميقًا: أن نتذكر لنحاول ألا نكرر نفس الأخطاء.
إحياء الذكرى ليس مجرد فعل رمزي، بل هو تأكيد أخلاقي على إنسانيتنا.
يتلاشى الألم بين الأخبار؛ تستمر الصراعات رغم التقدم العلمي والاجتماعي. ونواصل مقاومتنا من خلال إحياء الذاكرة، وتكريم الضحايا، وتقدير قيمة الحقيقة.

لا تنتهي الحروب بمعاهدات سلام؛ فعواقبها تمتد عبر الأجيال، في أجساد الناجين، وفي الغيابات التي يتركونها وراءهم، وفي صمت العائلات، وفي المناطق التي طبعتها الخسارة.
تؤدي الذاكرة الجماعية هنا وظيفة أساسية: منع تطبيع الرعب، وتذكيرنا بأن “ما حدث، إذن يمكن أن يحدث مرة أخرى”. التذكر لا يعني استعادة الألم، بل التعلم منه.
في نوفمبر، تلتقي نهايات العديد من الأهوال. في أوروبا، يصادف الحادي عشر من نوفمبر يوم الهدنة، الذي يُخلّد ذكرى نهاية الحرب العالمية الأولى. في أمريكا اللاتينية، تُخلّد العديد من الدول حروب الاستقلال، وكذلك ضحايا النزاعات الداخلية أو الديكتاتوريات من خلال أيام للذاكرة أو متاحف للحقيقة. في آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط، تتخذ الاحتفالات طابعها الخاص، وإن كانت تشترك في رسالة واحدة: الحرب تترك ندوبًا لا تُنسى.
إلى هذا، تُضاف حالات الاختفاء المأساوية، والهجمات التي طبعت حياتنا، والأمهات اللواتي يواصلن البحث عن أطفالهن، والشباب الذين يدرسون التاريخ لفهم حاضرهم، والفنانون الذين يحوّلون الألم إلى إبداع. كل فعل من أفعال الذاكرة، مهما كان صغيرًا، يُسهم في بناء وعي جماعي بالسلام.

إحياء الذكرى ليس فعلًا من أفعال الماضي: إنه مسؤولية الحاضر.
اليوم، وبينما يواجه العالم مجددًا صراعات مسلحة وتهجيرًا قسريًا وخطابات كراهية، تكتسب ذكرى حروب الماضي قيمة متجددة.
يُذكرنا بما هو على المحك عندما يُفقد التعاطف، وعندما تفقد الحياة البشرية قيمتها، وعندما يُبرّر العنف باسم الهوية أو السلطة.
إن تذكّر الحروب لا يعني تمجيدها. هذا يعني النظر إليها مباشرةً، بعواقبها وأخطائها ودروسها. حينها فقط يُمكننا أن نطمح إلى تعايش قائم على الاحترام والكرامة.
الذاكرة ليست حنينًا للماضي: إنها وعي.
إحياء ذكرى الحروب يعني الاعتراف بأن السلام لا يُورث، بل يُبنى ويُزرع يومًا بعد يوم. كل فعل من أفعال الذاكرة، سواءً أكان زهرة أم كلمة أم صمتًا، هو وسيلة للقول إن الأرواح التي أُزهقت لها قيمتها، وأن التاريخ لا يُعيد نفسه، وأن معاناة الإنسان تستحق أن تُسمع.

ننتقل من الألم إلى الفرح في لحظة، ولتهدئة الجسد المُعذب، نستعد للاحتفال. التذكر لا يُقيدنا بالماضي؛ بل يفتح أعيننا على المستقبل.
وفي ذلك المستقبل، تُصبح الذاكرة أخصب بذرة للسلام.

,hoylunes, #claudia_benitez#