في عصر الشاشات، لم يعد الطعام مجرد متعة للحنك، بل أصبح لغة بصرية وعاطفية. فتقديم الطبق – الذي كان في السابق مجرد تفصيل – تحول اليوم إلى فعل احترام وهوية وتواصل جمالي يُعيد تعريف معنى المطبخ.
بقلم زياد سلطان
HoyLunes – لعقود، كان فن الطهي يُعرّف بالذوق والتقنية ودرجة الحرارة – بدقة نقاط الطهي، وجودة المكونات، أو الذاكرة التذوقية التي تُثيرها الوصفة. لكن في السنوات الأخيرة، تغيّر شيء ما في عملية الأكل: لقد دخل الجمال إلى المطبخ.
اليوم، قبل التذوق، نُلاحظ. وقبل التلذذ، نُحكم بأعيننا. لم يعد رواد المطاعم المعاصرون يبحثون عن الطعام فحسب: بل يرغبون في أن يُتأثروا ويُفاجأوا – وقبل كل شيء، أن يُشاركوه.
أصبحت المائدة مسرحًا، وكل طبق، فعل بصري موجز يجمع بين الفن والهوية والرغبة.
قوة النظرة
في عصر وسائل التواصل الاجتماعي، لم يعد “التقديم” – طريقة تقديم الطبق – خيارًا جماليًا بسيطًا: بل لغة. شكل من أشكال التواصل بين الطاهي والجمهور. أصبحت كاميرا الهاتف المحمول بمثابة الشوكة الجديدة، وتدرك المطاعم أن الطبق الجميل قد يصل إلى أبعد من مجرد رائحته.
يلعب اللون والملمس وترتيب المكونات دورًا في السرد البصري. يمكن لخط منحنٍ من البوريه أن يثير الحركة؛ ويمكن للصلصة التي تُلقى بشكل غير منتظم أن تعبر عن العفوية أو التمرد. تكشف جماليات الطبق عن الطاهي بقدر ما تكشف عن نكهته.
ومع ذلك، فهو ليس مجرد “طعام للإنستغرام”. وراء كل تركيبة يكمن بحث عاطفي: كيف نحوّل العادي إلى فن زائل، وكيف نحوّل التغذية إلى تجربة حسية متكاملة.

السرد الجديد للتذوق
لم يعد الطهاة المعاصرون يكتفون بالطهي فحسب، بل يريدون سرد القصص.
يمكن للطبق أن يروي ذكريات الطفولة، أو ذكريات مكان، أو التناقض بين التقاليد والابتكار، أو هشاشة الزمن. في بعض المطاعم، لا يُوضع الطبق عشوائيًا، بل يتبع إيقاعًا موسيقيًا تقريبًا: من المركز إلى الحواف، من الفوضى إلى النظام، من النار إلى الصمت.
وهكذا، أصبح العرض جزءًا من فن الطهي. وليس من قبيل الصدفة أن يعمل بعض الطهاة جنبًا إلى جنب مع المصممين والمصورين والفنانين التشكيليين. لقد تطور المطبخ ليصبح مساحة متعددة التخصصات حيث تُثقف العين الحنك.
الجمال لا يُغني عن النكهة، بل يُهيئها، ويُوقظها، ويُرشدها.
تشير دراسة حديثة في علم نفس التذوق (دون الحاجة إلى الاستشهاد بها مباشرةً) إلى أن الدماغ يتفاعل بشكل أقوى مع الأطعمة المتناغمة بصريًا: تبدأ اللذة في العيون وتبقى في الفم.

الجماليات كاحترام
إن تقديم طبق بعناية ليس لفتة سطحية. إنه شكل من أشكال الاحترام – للمنتج، ولمن يُطهوه، ولمن يُقدمه.
في المنازل المتواضعة، يوجد هذا الاحترام نفسه: مفرش طاولة نظيف، ترتيب بسيط، قطعة خبز تُقدم بشغف. الجماليات لا تقتصر على المطاعم الفاخرة فحسب، بل تتواجد أيضًا في المنازل التي يُشارك فيها الطعام كتعبير عن الحب.
في نهاية المطاف، ما يُحييه هذا التوجه هو فكرة قديمة: أن الجمال والتغذية تعبيران عن رغبة إنسانية واحدة – في الرعاية وفي أن يُعتنى بنا.
الطبق مرآة للعالم
طريقة تناولنا للطعام تُعبّر كثيرًا عن عصرنا. في عصر التسارع المُستمر، يدعونا “التقديم” إلى التوقف، والتأمل قبل التهام الطعام، وإدراك أن التجربة الجمالية تُغذينا أيضًا.
ثمة أخلاقيات في هذا الجمال: أخلاقيات تتعلق بالتفاصيل، وبالوقت، وباللفتة الواعية.
لعل هذا هو السبب، في خضمّ التشبع الرقمي، يجد فن الطهي قوته في الملموس. إن رؤية طبق مُقدّم بجمال لا تعني مجرد الإعجاب بتركيبته: بل هي تذكّر أن حتى الأشياء العابرة قد تحمل معنى، وأن الجمال – كالنكهة – يتلاشى أيضًا، ولكنه يترك أثرًا.

مستقبل النكهات
لن يقتصر مستقبل المطبخ على كونه صحيًا أو مستدامًا أو تكنولوجيًا، بل سيكون أيضًا *عاطفيًا وجماليًا.* كل طبق سيروي قصة، وكل مكون سيرسم مشهدًا طبيعيًا، وكل عرض سيرسم نية.
لأن الأكل لم يعد مجرد تغذية، بل هو إعادة تواصل مع إنسانيتنا من خلال الحواس.
ولعل هذا الدمج بين الفن والعاطفة والطعام سيكشف لنا عن شكل جديد من الجمال: جمال يُؤكل، ويُشعر به، ويُخلّد في الذاكرة.
,hoylunes, #zieadsoltan#